الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله: (باب التسمية على كل حال وعند الوقاع) أي الجماع، وعطفه عليه من عطف الخاص على العام للاهتمام به، وليس العموم ظاهرا من الحديث الذي أورده، لكن يستفاد من باب الأولى لأنه إذا شرع في حالة الجماع وهي مما أمر فيه بالصمت فغيره أولى. وفيه إشارة إلى تضعيف ما ورد من كراهة ذكر الله في حالين الخلاء والوقاع، لكن على تقدير صحته لا ينافي حديث الباب لأنه يحمل على حال إرادة الجماع كما سيأتي في الطريق الأخرى. ويقيد ما أطلقه المصنف ما رواه ابن أبي شيبة من طريق علقمة عن ابن مسعود " وكان إذا غشي أهله فأنزل قال: اللهم لا تجعل للشيطان فيما رزقتني نصيبا". الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَبْلُغُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرُّهُ الشرح: قوله: (جرير) و ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر من صغار التابعين، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين. قوله: (فقضي بينهم) كذا للمستملي والحموي، وللباقين " بينهما " وهو أصوب، ويحمل الأول على أن أقل الجمع اثنان، وسيأتي مباحث هذا الحديث في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. وأفاد الكرماني أنه رأى في نسخة قرئت على الفربري قيل لأبي عبد الله يعني المصنف: من لا يحسن العربية يقولها بالفارسية؟ قال: نعم. *3* الشرح: قوله: (باب ما يقول عند الخلاء) أي عند إرادة الدخول في الخلاء إن كان معدا لذلك وإلا فلا تقدير. (تنبيه) : أشكل إدخال هذا الباب والأبواب التي بعده إلى باب الوضوء مرة مرة، لأنه شرع في أبواب الوضوء فذكر منها فرضه وشرطه وفضيلته وجواز تخفيفه واستحباب إسباغه ثم غسل الوجه ثم التسمية ولا أثر لتأخيرها عن غسل الوجه لأن محلها مقارنة أول جزء منه ح فتقديمها في الذكر عنه وتأخيرها سواء، لكن ذكر بعدها القول عند الخلاء، واستمر في ذكر ما يتعلق بالاستنجاء، ثم رجع فذكر الوضوء مرة مرة. وقد خفي وجه المناسبة على الكرماني فاستروح قائلا: ما وجه الترتيب بين هذه الأبواب مع أن التسمية إنما هي قبل غسل الوجه لا بعده، ثم توسيط أبواب الخلاء بين أبواب الوضوء؟ وأجاب بقوله: قلت البخاري لا يراعي حسن الترتيب، وجملة قصده إنما هو في نقل الحديث وما يتعلق بصحيحه لا غير انتهى. وقد أبطل هذا الجواب في كتاب التفسير فقال لما ناقش البخاري في أشياء ذكرها من تفسير بعض الألفاظ بما معناه: لو ترك البخاري هذا لكان أولى، لأنه ليس من موضوع كتابه، وكذلك قال في مواضع أخر إذا لم يظهر له توجيه ما يقوله البخاري، مع أن البخاري في جميع ما يورده من تفسير الغريب إنما ينقله عن أهل ذلك الفن كأبي عبيدة والنضر بن شميل والفراء وغيرهم، وأما المباحث الفقهية فغالبها مستمدة له من الشافعي وأبي عبيدة وأمثالهما، وأما المسائل الكلامية فأكثرها من الكرابيسي وابن كلاب ونحوهما. والعجب من دعوى الكرماني أنه لا يقصد تحسين الترتيب بين الأبواب، مع أنه لا يعرف لأحد من المصنفين على الأبواب من اعتنى بذلك غيره، حتى قال جمع من الأئمة: فقه البخاري في تراجمه. وقد أبديت في هذا الشرح من محاسنه وتدقيقه في ذلك ما لا خفاء به، وقد أمعنت النظر في هذا الموضع فوجدته في بادئ الرأي يظن الناظر فيه أنه لم يعتن بترتيبه كما قال الكرماني، لكنه اعتنى بترتيب كتاب الصلاة اعتناء تاما كما سأذكره هناك، وقد يتلمح أنه ذكر أولا فرض الوضوء كما ذكرت، وأنه شرط لصحة الصلاة، ثم فضله وأنه لا يجب إلا مع التيقن، وأن الزيادة فيه على إيصال الماء إلى العضو ليس بشرط. وأن ما زاد على ذلك من الإسباغ فضل. ومن ذلك الاكتفاء في غسل بعض الأعضاء بغرفة واحدة، وأن التسمية مع أوله مشروعة كما يشرع الذكر عند دخول الخلاء، فاستطرد من هنا لآداب الاستنجاء وشرائطه، ثم رجع لبيان أن واجب الوضوء المرة الواحدة وأن الثنتين والثلاث سنة، ثم ذكر سنة الاستنثار إشارة إلى الابتداء بتنظيف البواطن قبل الظواهر، وورد الأمر بالاستجمار وترا في حديث الاستنثار فترجم به لأنه من جملة التنظف، ثم رجع إلى حكم التخفيف فترجم بغسل القدمين لا بمسح الخفين إشارة إلى أن التخفيف لا يكفي فيه المسح دون مسمى الغسل. ثم رجع إلى المضمضة لأنها أخت الاستنشاق، ثم استدرك بغسل العقبين لئلا يظن أنهما لا يدخلان في مسمى القدم، وذكر غسل الرجلين في النعلين ردا على من قصر في سياق الحديث المذكور فاقتصر على النعلين على ما سأبينه. ثم ذكر فضل الابتداء باليمين، ومتى يجب طلب الماء للوضوء. ثم ذكر حكم الماء الذي يستعمل وما يوجب الوضوء. ثم ذكر الاستعانة في الوضوء. ثم ما يمتنع على من كان على غير وضوء، واستمر على ذلك إذا ذكر شيئا من أعضاء الوضوء استطرد منه إلى ما له به تعلق لمن يمعن التأمل، إلى أن أكمل كتاب الوضوء على ذلك. وسلك في ترتيب الصلاة أسهل من هذا المسلك فأورد أبوابها ظاهرة التناسب في الترتيب، فكأنه تفنن في ذلك والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ تَابَعَهُ ابْنُ عَرْعَرَةَ عَنْ شُعْبَةَ وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ إِذَا أَتَى الْخَلَاءَ وَقَالَ مُوسَى عَنْ حَمَّادٍ إِذَا دَخَلَ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الشرح: قوله: (الخبث) بضم المعجمة الموحدة كذا في الرواية. وقال الخطابي: إنه لا يجوز غيره، وتعقب بأنه يجوز إسكان الموحدة كما في نظائره مما جاء على هذا الوجه ككتب وكتب، قال النووي: وقد صرح جماعة من أهل المعرفة بأن الباء هنا ساكنة منهم أبو عبيدة، إلا أن يقال إن ترك التخفيف أولى لئلا يشتبه بالمصدر. والخبث جمع خبيث والخبائث جمع خبيثة، يريد ذكران الشياطين وإناثهم قاله الخطابي وابن حبان وغيرهما، ووقع في نسخة ابن عساكر: قال أبو عبد الله - يعني البخاري - ويقال الخبث أي بإسكان الموحدة، فإن كانت مخففة عن الحركة فقد تقدم توجيهه، وإن كان بمعنى المفرد فمعناه كما قال ابن الأعرابي: المكروه، قال: فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار، وعلى هذا فالمراد بالخبائث المعاصي أو مطلق الأفعال المذمومة ليحصل التناسب، ولهذا وقع في رواية الترمذي وغيره " أعوذ بالله من الخبث والخبيث " أو " الخبث والخبائث " هكذا على الشك، الأول بالإسكان مع الإفراد، والثاني بالتحريك مع الجمع، أي من الشيء المكروه ومن الشيء المذموم، أو من ذكران الشياطين وإناثهم. وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ إظهارا للعبودية، ويجهر بها للتعليم. وقد روى العمري هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار عن عبد العزيز بن صهيب بلفظ الأمر قال: " إذا دخلتم الخلاء فقولوا: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث " وإسناده على شرط مسلم، وفيه زيادة التسمية ولم أرها في غير هذه الرواية. قوله: (تابعه ابن عرعرة) اسمه محمد، وحديثه عند المصنف في الدعوات. قوله. (وقال غندر) هذا التعليق وصله البزار في مسنده عن محمد بن بشار بندار عن غندر بلفظه، ورواه أحمد بن حنبل عن غندر بلفظ إذا دخل. قوله: (وقال موسى) هو ابن إسماعيل التبوذكي. قوله: (عن حماد) هو ابن سلمة يعني عبد العزيز بن صهيب، وطريق موسى هذه وصلها البيهقي باللفظ المذكور. قوله: (وقال سعيد بن زيد) هو أخو حماد بن زيد، وروايته هذه وصلها المؤلف في الأدب المفرد قال: حدثنا أبو النعمان حدثنا سعيد بن زيد حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال: حدثني أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء قال. . فذكر مثل حديث الباب، وأفادت هذه الرواية تبيين المراد من قوله: " إذا دخل الخلاء " أي كان يقول هذا الذكر عند إرادة الدخول لا بعده. والله أعلم. وهذا في الأمكنة المعدة لذلك بقرينة الدخول، ولهذا قال ابن بطال. رواية " إذا أتى " أعم لشمولها انتهى. والكلام هنا في مقامين: أحدهما هل يختص هذا الذكر بالأمكنة المعدة لذلك لكونها تحضرها الشياطين كما ورد في حديث زيد بن أرقم في السنن، أو يشمل حتى لو بال في إناء مثلا في جانب البيت؟ الأصح الثاني ما لم يشرع في قضاء الحاجة. الثاني متى يقول ذلك؟ فمن يكره ذكر الله في تلك الحالة يفصل: أما في الأمكنة المعدة لذلك فيقوله قبيل دخولها، وأما في غيرها فيقوله في أول الشروع كتشمير ثيابه مثلا وهذا مذهب الجمهور. وقالوا فيمن نسي: يستعيذ بقلبه لا بلسانه. ومن يجيز مطلقا كما نقل عن مالك لا يحتاج إلى تفصيل. (تنبيه) : سعيد بن زيد الذي أتى بالرواية المبينة صدوق تكلم بعضهم في حفظه، وليس له في البخاري غير هذا الموضع المعلق، لكن لم ينفرد بهذا اللفظ، فقد رواه مسدد عن عبد الوارث عن عبد العزيز مثله، وأخرجه البيهقي من طريقه وهو على شرط البخاري. *3* الشرح: قوله: (باب وضع الماء عند الخلاء) هو بالمد، وحقيقته المكان الخالي، واستعمل في المكان المعد لقضاء الحاجة مجازا. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْخَلَاءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا قَالَ مَنْ وَضَعَ هَذَا فَأُخْبِرَ فَقَالَ اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ الشرح: قوله: (ورقاء) و ابن عمر. قوله: (عن عبيد الله) بالتصغير (ابن أبي يزيد) مكي ثقة لا يعرف اسم أبيه، ووقع في رواية الكشميهني ابن أبي زائدة وهو غلط. قوله: (فوضعت له وضوءا) بفتح الواو أي ماء ليتوضأ به، وقيل يحتمل أن يكون ناوله إياه ليستنجي به، وفيه نظر. قوله: (فأخبر) تقدم في كتاب العلم أن ميمونة بنت الحارث خالة ابن عباس هي المخبرة بذلك، قال التيمي: فيه استحباب المكافأة بالدعاء. وقال ابن المنير: مناسبة الدعاء لابن عباس بالتفقه على وضعه الماء من جهة أنه تردد بين ثلاثة أمور: إما أن يدخل إليه بالماء إلى الخلاء، أو يضعه على الباب ليتناوله من قرب، أو لا يفعل شيئا، فرأي الثاني أوفق، لأن في الأول تعرضا للاطلاع، والثالث يستدعي مشقة في طلب الماء، والثاني أسهلها، ففعله يدل على ذكائه، فناسب أن يدعي له بالتفقه في الدين ليحصل به النفع، وكذا كان. وقد تقدمت باقي مباحثه في كتاب العلم. *3* الشرح: قوله: (باب لا تستقبل القبلة) في روايتنا بضم المثناة على البناء للمفعول وبرفع القبلة، وفي غيرها بفتح الباء التحتانية على البناء للفاعل ونصب القبلة، ولام تستقبل مضمومة على أن لا نافية، ويحوز كسرها على أنها ناهية. قوله: (إلا عند البناء جدار أو نحوه) وللكشميهني " أو غيره " أي كالأحجار الكبار والسواري والخشب وغيرها من السواتر. قال الإسماعيلي: ليس في حديث الباب دلالة على الاستثناء المذكور. وأجيب بثلاثة أجوبة: أحدها أنه تمسك بحقيقة الغائط لأنه المكان المطمئن من الأرض في الفضاء، وهذه حقيقته اللغوية، وإن كان قد صار يطلق على كل مكان أعد لذلك مجازا فيختص النهي به، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة، وهذا الجواب للإسماعيلي وهو أقواها. ثانيها أن استقبال القبلة إنما يتحقق في الفضاء، وأما الجدار والأبنية فإنها إذا استقبلت أضيف إليها الاستقبال عرفا قاله ابن المنير، ويتقوى بأن الأمكنة المعدة ليست صالحة لأن يصلى فيها فلا يكون فيها قبلة بحال، وتعقب بأنه يلزم منه أن لا تصح صلاة من بينه وبين الكعبة مكان لا يصلح للصلاة، وهو باطل. ثالثها الاستثناء مستفاد من حديث ابن عمر المذكور في الباب الذي بعده، لأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم كله كأنه شيء واحد قاله ابن بطال وارتضاه ابن التين وغيره، لكن مقتضاه أن لا يبقى لتفصيل التراجم معنى، فإن قيل لم حملتم الغائط على حقيقته ولم تحملوه على ما هو أعم من ذلك ليتناول الفضاء والبنيان، لا سيما والصحابي راوي الحديث قد حمله على العموم فيهما لأنه قال - كما سيأتي عند المصنف في باب قبلة أهل المدينة في أوائل الصلاة - فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة فننحرف ونستغفر، فالجواب أن أبا أيوب أعمل لفظ الغائط في حقيقته ومجازه وهو المعتمد، وكأنه لم يبلغه حديث التخصيص، ولولا أن حديث ابن عمر دل على تخصيص ذلك بالأبنية لقلنا بالتعميم، لكن العمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما، وقد جاء عن جابر فيما رواه أحمد وأبو داود وابن خزيمة وغيرهم تأييد ذلك، ولفظه عند أحمد " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا هرقنا الماء. قال: ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة"، والحق أنه ليس بناسخ لحديث النهي خلافا لمن زعمه، بل هو محمول على أنه رآه في بناء أو نحوه، لأن ذلك هو المعهود من حاله صلى الله عليه وسلم لمبالغته في التستر، ورؤية ابن عمر له كانت عن غير قصد كما سيأتي فكذا رواية جابر، ودعوى خصوصية ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم لا دليل عليها إذ الخصائص لا تثبت بالاحتمال، ودل حديث ابن عمر الآتي على جواز استدبار القبلة في الأبنية، وحديث جابر على جواز استقبالها، ولولا ذلك لكان حديث أبي أيوب لا يخص من عمومه بحديث ابن عمر إلا جواز الاستدبار فقط، ولا يقال يلحق به الاستقبال قياسا، لأنه لا يصح إلحاقه به لكونه فوقه، وقد تمسك به قوم فقالوا بجواز الاستدبار دون الاستقبال حكي عن أبي حنيفة وأحمد وبالتفريق بين البنيان والصحراء مطلقا، قال الجمهور: وهو مذهب مالك والشافعي وإسحاق، وهو أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة، ويؤيده من جهة النظر ما تقدم عن ابن المنير أن الاستقبال في البنيان مضاف إلى الجدار عرفا. وبأن الأمكنة المعدة لذلك مأوى الشياطين فليست صالحة لكونها قبلة، بخلاف الصحراء فيهما. وقال قوم بالتحريم مطلقا، وهو المشهور عن أبي حنيفة وأحمد. وقال به أبو ثور صاحب الشافعي، ورجحه من المالكية ابن العربي، ومن الظاهرية ابن حزم، وحجتهم أن النهي مقدم على الإباحة، ولم يصححه حديث جابر الذي أشرنا إليه. وقال قوم بالجواز مطلقا، وهو قول عائشة وعروة وربيعة وداود، واعتلوا بأن الأحاديث تعارضت فليرجع إلى أصل الإباحة. فهذه المذاهب الأربعة مشهورة عن العلماء، ولم يحك النووي في شرح المهذب غيرها. وفي المسألة ثلاثة مذاهب أخرى: منها جواز الاستدبار في البنيان فقط تمسكا بظاهر حديث ابن عمر، وهو قول أبي يوسف. ومنها التحريم مطلقا حتى في القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس، وهو محكي عن إبراهيم وابن سيرين عملا بحديث معقل الأسدي " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو بغائط " رواه أبو داود وغيره، وهو حديث ضعيف لأن فيه راويا مجهول الحال. وعلى تقدير صحته فالمراد بذلك أهل المدينة ومن على سمتها، لأن استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبارهم الكعبة فالعلة استدبار الكعبة لا استقبال بيت المقدس، وقد ادعى الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة، وفيه نظر لما ذكرناه عن إبراهيم وابن سيرين، وقد قال به بعض الشافعية أيضا حكاه ابن أبي الدم. ومنها أن التحريم مختص بأهل المدينة ومن كان على سمتها، فأما من كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقا لعموم قوله: " شرقوا أو غربوا " قاله أبو عوانة صاحب المزني، وعكسه البخاري فاستدل به على أنه ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة كما سيأتي في باب قبلة أهل المدينة من كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ وَلَا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا الشرح: قوله: (فلا يستقبل) بكسر اللام لأن " لا " ناهية واللام في القبلة للعهد أي للكعبة. قوله: (ولا يولها ظهره) ولمسلم " ولا يستدبرها " وزاد " ببول أو بغائط " والغائط الثاني غير الأول، أطلق على الخارج من الدبر مجازا من إطلاق اسم المحل على الحال كراهية لذكره بصريح اسمه، وحصل من ذلك جناس تام، والظاهر من قوله " ببول " اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة، ويكون مثاره إكرام القبلة عن المواجهة بالنجاسة، ويؤيده قوله في حديث جابر " إذا هرقنا الماء". وقيل مثار النهي كشف العورة، وعلى هذا فيطرد في كل حالة تكشف فيها العورة كالوطء مثلا، وقد نقله ابن شاش المالكي قولا في مذهبهم وكأن قائله تمسك برواية في الموطأ " لا تستقبلوا القبلة بفروجكم " ولكنها محمولة على المعنى الأول أي حال قضاء الحاجة جمعا بين الروايتين والله أعلم. وسيأتي الكلام على قول أبي أيوب " فننحرف ونستغفر " حيث أورده المصنف في أوائل الصلاة إن شاء الله تعالى. *3* الشرح: قوله: (باب من تبرز) بوزن تفعل من البراز بفتح الموحدة وهو الفضاء الواسع، كنوا به عن الخارج من الدبر كما تقدم في الغائط. قوله: (على لبنتين) فتح اللام وكسر الموحدة وفتح النون تثنية لبنة وهي ما يصنع من الطين أو غيره للبناء قبل أن يحرق. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ فَلَا تَسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَلَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَقَدْ ارْتَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ وَقَالَ لَعَلَّكَ مِنْ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ فَقُلْتُ لَا أَدْرِي وَاللَّهِ قَالَ مَالِكٌ يَعْنِي الَّذِي يُصَلِّي وَلَا يَرْتَفِعُ عَنْ الْأَرْضِ يَسْجُدُ وَهُوَ لَاصِقٌ بِالْأَرْضِ الشرح: قوله: (يحيى بن سعيد) هو الأنصاري المدني التابعي، وكذا شيخه وشيخ شيخه في الأوصاف الثلاثة، ولكن قيل إن لواسع رؤية فذكر لذلك في الصحابة، وأبوه حبان هو ابن منقذ بن عمر له ولأبيه صحبة، وقد تقدم في المقدمة أنه بفتح المهملة وبالموحدة. قوله: قوله: (أن ناسا) يشير بذلك إلى من كان يقول بعموم النهي كما سبق، وهو مروي عن أبي أيوب وأبي هريرة ومعقل الأسدي وغيرهم. قوله: (إذا قعدت) ذكر القعود لكونه الغالب وإلا فحال القيام كذلك. قوله: (على حاجتك) كنى بهذا عن التبرز ونحوه. قوله: (لقد) اللام جواب قسم محذوف. قوله: (على ظهر بيت لنا) وفي رواية يزيد الآتية " على ظهر بيتنا " وفي رواية عبيد الله بن عمر الآتية " على ظهر بيت حفصة " أي أخته كما صرح به في رواية مسلم، ولابن خزيمة " دخلت على حفصة بنت عمر فصعدت ظهر البيت". وطريق الجمع أن يقال: إضافته البيت إليه على سبيل المجاز لكونها أخته فله منه سبب، وحيث أضافه إلى حفصة كان باعتبار أنه البيت الذي أسكنها النبي صلى الله عليه وسلم فيه واستمر في يدها إلى أن ماتت فورث عنها، وسيأتي انتزاع المصنف ذلك من هذا الحديث في كتاب الخمس إن شاء الله تعالى، وحيث أضافه إلى نفسه كان باعتبار ما آل إليه الحال لأنه ورث حفصة دون إخوته لكونها كانت شقيقته ولم تترك من يحجبه عن الاستيعاب. قوله: (على لبنتين) ولابن خزيمة " فأشرفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على خلائه " وفي رواية له: " فرأيته يقضي حاجته محجوبا عليه بلبن " وللحكيم الترمذي بسند صحيح " فرأيته في كنيف " وهو بفتح الكاف وكسر النون بعدها ياء تحتانية ثم فاء. وانتفى بهذا إيراد من قال ممن يرى الجواز مطلقا: يحتمل أن يكون رآه في الفضاء. وكونه رآه على لبنتين لا يدل على البناء لاحتمال أن يكون جلس عليهما ليرتفع بهما عن الأرض، ويرد هذا الاحتمال أيضا أن ابن عمر كان يرى المنع من الاستقبال في الفضاء إلا بساتر كما رواه أبو داود والحاكم بسند لا بأس به، ولم يقصد ابن عمر الإشراف على النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة وإنما صعد السطح لضرورة له كما في الرواية الآتية فحانت منه التفاتة كما في رواية للبيهقي من طريق نافع عن ابن عمر. نعم لما اتفقت له رؤيته في تلك الحالة عن غير قصد أحب أن لا يخلي ذلك من فائدة فحفظ هذا الحكم الشرعي. وكأنه إنما رآه من جهة ظهره حتى ساغ له تأمل الكيفية المذكورة من غير محذور، ودل ذلك على شدة حرص الصحابي على تتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ليتبعها، وكذا كان رضي الله عنه. قوله: (قال) أي ابن عمر (لعلك) ، الخطاب لواسع، وغلط من زعم أنه مرفوع. وقد فسر مالك المراد بقوله: " يصلون على أوراكهم " أي من يلصق بطنه بوركيه إذا سجد، وهو خلاف هيئة السجود المشروعة وهي التجافي والتجنح كما سيأتي بيانه في موضعه، وفي النهاية: وفسر بأنه يفرج ركبتيه فيصير معتمدا على وركيه. وقد استشكلت مناسبة ذكر ابن عمر لهذا مع المسألة السابقة فقيل: يحتمل أن يكون أراد بذلك أن الذي خاطبه لا يعرف السنة، إذ لو كان عارفا بها لعرف الفرق بين الفضاء وغيره، أو الفرق بين استقبال الكعبة وبيت المقدس، وإنما كنى عمن لا يعرف السنة بالذي يصلي على وركيه لأن من يفعل ذلك لا يكون إلا جاهلا بالسنة، وهذا الجواب للكرماني، ولا يخفى ما فيه من التكلف، وليس في السياق أن واسعا سأل ابن عمر عن المسألة الأولى حتى ينسبه إلى عدم معرفتها. ثم الحصر الأخير مردود، لأنه قد يسجد على وركيه من يكون عارفا بسنن الخلاء، والذي يظهر في المناسبة ما دل عليه سياق مسلم، ففي أوله عنده عن واسع قال: " كنت أصلي في المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس، فلما قضيت صلاتي انصرفت إليه من شقي، فقال عبد الله: يقول الناس " فذكر الحديث، فكأن ابن عمر رأى منه في حال سجوده شيئا لم يتحققه فسأله عنه بالعبارة المذكورة، وكأنه بدأ بالقصة الأولى لأنها من روايته المرفوعة المحققة عنده فقدمها على ذلك الأمر المظنون، ولا يبعد أن يكون قريب العهد بقول من نقل عنهم ما نقل فأحب أن يعرف الحكم لهذا التابعي لينقله عنه، على أنه لا يمتنع إبداء مناسبة بين هاتين المسألتين بخصوصهما وأن لإحداهما بالأخرى تعلقا بأن يقال: لعل الذي كان يسجد وهو لاصق بطنه بوركيه كان يظن امتناع استقبال القبلة بفرجه في كل حالة كما قدمنا في الكلام على مثار النهي. وأحوال الصلاة أربعة: قيام وركوع وسجود وقعود، وانضمام الفرج فيها بين الوركين ممكن إلا إذا جافى في السجود فرأى أن في الإلصاق ضما للفرج ففعله ابتداعا وتنطعا، والسنة بخلاف ذلك، والتستر بالثياب كاف في ذلك، كما أن الجدار كاف في كونه حائلا بين العورة والقبلة إن قلنا إن مثار النهي الاستقبال بالعورة، فلما حدث ابن عمر التابعي بالحكم الأول أشار له إلى الحكم الثاني منبها له على ما ظنه منه في تلك الصلاة التي رآه صلاها. وأما قول واسع " لا أدري " فدال على أنه لا شعور عنده بشيء مما ظنه به، ولهذا لم يغلظ ابن عمر له في الزجر. والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب خروج النساء إلى البراز) أي الفضاء كما تقدم، وهو بفتح الموحدة ثم راء وبعد الألف زاي. قال الخطابي: أكثر الرواة يقولونه بكسر أوله، وهو غلط لأن البراز بالكسر هو المبارزة في الحرب. قلت: بل هو موجه لأنه يطلق بالكسر على نفس الخارج، قال الجوهري: البراز المبارزة في الحرب، والبراز أيضا كناية عن تفل الغذاء وهو الغائط، والبراز بالفتح الفضاء الواسع انتهى. فعلى هذا من فتح أراد الفضاء، فإن أطلقه على الخارج فهو من إطلاق اسم المحل على الحال كما تقدم مثله في الغائط، ومن كسر أراد نفس الخارج. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْجُبْ نِسَاءَكَ فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي عِشَاءً وَكَانَتْ امْرَأَةً طَوِيلَةً فَنَادَاهَا عُمَرُ أَلَا قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَدْ أُذِنَ أَنْ تَخْرُجْنَ فِي حَاجَتِكُنَّ قَالَ هِشَامٌ يَعْنِي الْبَرَازَ الشرح: قوله: (حدثنا يحيى بن بكير) تقدم هذا الإسناد برمته في بدء الوحي، وفيه تابعيان عروة وابن شهاب، وقرينان الليث وعقيل. قوله: (المناصع) بالنون وكسر الصاد المهملة بعدها عين مهملة جمع منصع بوزن مقعد وهي أماكن معروفة من ناحية البقيع، قال الداودي: سميت بذلك لأن الإنسان ينصع فيها أي يخلص. والظاهر أن التفسير مقول عائشة. والأفيح بالحاء المهملة المتسع. قوله: (احجب) أي امنعهن من الخروج من بيوتهن، بدليل أن عمر بعد نزول آية الحجاب قال لسودة ما قال كما سيأتي قريبا. ويحتمل أن يكون أراد أولا الأمر بستر وجوههن، فلما وقع الأمر بوفق ما أراد أحب أيضا أن يحجب أشخاصهن مبالغة في التستر فلم يجب لأجل الضرورة، وهذا أظهر الاحتمالين. وقد كان عمر يعد نزول آية الحجاب من موافقاته كما سيأتي في تفسير سورة الأحزاب، وعلى هذا فقد كان لهن في التستر عند قضاء الحاجة حالات: أولها بالظلمة لأنهن كن يخرجن بالليل دون النهار كما قالت عائشة في هذا الحديث " كن يخرجن بالليل " وسيأتي في حديث عائشة في قصة الإفك " فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع، وهو متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل " انتهى. ثم نزل الحجاب فتسترن بالثياب، لكن كانت أشخاصهن ربما تتميز، ولهذا قال عمر لسودة في المرة الثانية بعد نزول الحجاب: أما والله ما تخفين علينا. ثم اتخذت الكنف في البيوت فتسترن بها كما في حديث عائشة في قصة الإفك أيضا فإن فيها " وذلك قبل أن تتخذ الكنف"، وكان قصة الإفك قبل نزول آية الحجاب كما سيأتي شرحه في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: (فأنزل الله الحجاب) وللمستملي " آية الحجاب " زاد أبو عوانة في صحيحه من طريق الزبيدي عن ابن شهاب " فأنزل الله الحجاب وطريق الجمع بينها أن أسباب نزول الحجاب تعددت، وكانت قصة زينب آخرها للنص على قصتها في الآية، والمراد بآية الحجاب في بعضها قوله تعالى: وقوله: (حدثنا زكريا) هو ابن يحيى. وسيأتي حديثه هذا في التفسير مطولا، ومحصله أن سودة خرجت بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها - وكانت عظيمة الجسم - فرآها عمر بن الخطاب فقال. يا سودة، أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين. فرجعت فشكت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتعشى، فأوحي إليه، فقال: إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن. قال ابن بطال: فقه هذا الحديث أنه يجوز للنساء التصرف فيما لهن الحاجة إليه من مصالحهن، وفيه مراجعة الأدنى للأعلى فيما يتبين له أنه الصواب وحيث لا يقصد التعنت، وفيه منقبة لعمر، وفيه جواز كلام الرجال مع النساء في الطرق للضرورة، وجواز الإغلاظ في القول لمن يقصد الخير، وفيه جواز وعظ الرجل أمه في الدين لأن سودة من أمهات المؤمنين، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي في الأمور الشرعية، لأنه لم يأمرهن بالحجاب مع وضوح الحاجة إليه حتى نزلت الآية، وكذا في إذنه لهن بالخروج. والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب التبرز في البيوت) عقب المصنف بهذه الترجمة ليشير إلى أن خروج النساء للبراز لم يستمر، بل اتخذت بعد ذلك الأخلية في البيوت فاستغنين عن الخروج إلا للضرورة. الحديث: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ ارْتَقَيْتُ فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ حَفْصَةَ لِبَعْضِ حَاجَتِي فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّأْمِ الشرح: قوله: (عبيد الله) أي ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو تابعي صغير من فقهاء أهل المدينة وإثباتهم، والإسناد كله مدنيون. الحديث: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ أَنَّ عَمَّهُ وَاسِعَ بْنَ حَبَّانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ قَالَ لَقَدْ ظَهَرْتُ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى ظَهْرِ بَيْتِنَا فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الشرح: قوله: (حدثنا يعقوب بن إبراهيم) و الدورقي، ويزيد هو ابن هارون كما لأبي ذر والأصيلي، ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري الذي روى مالك عنه هذا الحديث كما تقدم. ولم يقع في رواية يحيى " مستدبر القبلة " أي الكعبة كما في رواية عبيد الله بن عمر لأن ذلك من لازم من استقبل الشام بالمدينة، وإنما ذكرت في رواية عبيد الله للتأكيد والتصريح به، والتعبير تارة بالشام وتارة ببيت المقدس بالمعنى لأنهما في جهة واحدة. *3* الشرح: قوله: (باب الاستنجاء بالماء) أراد بهذه الترجمة الرد على من كرهه، وعلى من نفى وقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم وقد روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال: إذا لا يزال في يدي نتن. وعن نافع أن ابن عمر كان لا يستنجي بالماء. وعن ابن الزبير قال: ما كنا نفعله. ونقل ابن التين عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء. وعن ابن حبيب من المالكية أنه منع الاستنجاء بالماء لأنه مطعوم. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي مُعَاذٍ وَاسْمُهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَجِيءُ أَنَا وَغُلَامٌ مَعَنَا إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ يَعْنِي يَسْتَنْجِي بِهِ الشرح: قوله: (هشام بن عبد الملك) هو الطيالسي، والإسناد كله بصريون. قوله: (أجيء أنا وغلام) زاد في الرواية الآتية عقبها " منا " أي من الأنصار، وصرح به الإسماعيلي في روايته، ولمسلم " نحوي " أي مقارب لي في السن، والغلام هو المترعرع قاله أبو عبيد. وقال في المحكم: من لدن الفطام إلى سبع سنين، وحكى الزمخشري في أساس البلاغة أن الغلام هو الصغير إلى حد الالتحاء، فإن قيل له بعد الالتحاء غلام فهو مجاز. قوله: (إداوة) بكسر الهمزة إناء صغير من جلد. قوله: (من ماء) أي مملوءة من ماء. قوله: (يعني يستنجي به) قائل " يعني " هو هشام. وقد رواه المصنف بعد هذا عن سليمان بن حرب فلم يذكرها، لكنه رواه عقبة من طريق محمد بن جعفر عن شعبة فقال: " يستنجي بالماء " والإسماعيلي من طريق ابن مرزوق عن شعبة " فأنطلق أنا وغلام من الأنصار معنا إداوة فيها ماء يستنجي منها النبي صلى الله عليه وسلم"، وللمصنف من طريق روح بن القاسم عن عطاء بن أبي ميمونة " إذا تبرز لحاجته أتيته بماء فيغسل به"، ولمسلم من طريق خالد الحذاء عن عطاء عن أنس " فخرج علينا وقد استنجى بالماء " وقد بان بهذه الروايات أن حكاية الاستنجاء من قول أنس راوي الحديث، ففيه الرد على الأصيلي حيث تعقب على البخاري استدلاله بهذا الحديث على الاستنجاء بالماء قال: لأن قوله " يستنجي به " ليس هو من قول أنس إنما هو من قول أبي الوليد أي أحد الرواة عن شعبة، وقد رواه سليمان بن حرب عن شعبة فلم يذكرها، قال: فيحتمل أن يكون الماء لوضوئه انتهى. وقد انتفى هذا الاحتمال بالروايات التي ذكرناها، وكذا فيه الرد على من زعم أن قوله " يستنجي بالماء " مدرج من قول عطاء الراوي عن أنس فيكون مرسلا فلا حجة فيه كما حكاه ابن التين عن أبي عبد الملك البوني، فإن رواية خالد التي ذكرناها تدل على أنه قول أنس حيث قال: فخرج علينا. ووقع هنا في نكت البدر الزركشي تصحيف، فإنه نسب التعقب المذكور إلى الإسماعيلي وإنما هو للأصيلي، وأقره فكأنه ارتضاه وليس بمرضي كما أوضحناه. وكذا نسبه الكرماني إلى ابن بطال وأقره عليه، وابن بطال إنما أخذه عن الأصيلي. *3* وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ أَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ النَّعْلَيْنِ وَالطَّهُورِ وَالْوِسَادِ الشرح: قوله: (باب من حمل معه الماء لطهوره) هو بالضم أي ليتطهر به. قوله: (وقال أبو الدرداء أليس فيكم) هذا الخطاب لعلقمة بن قيس، والمراد بصاحب النعلين وما ذكر معهما عبد الله بن مسعود لأنه كان يتولى خدمة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وصاحب النعلين في الحقيقة هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل لابن مسعود صاحب النعلين مجازا لكونه كان يحملهما، وسيأتي الحديث المذكور موصولا عند المصنف في المناقب إن شاء الله تعالى. وإيراد المصنف لحديث أنس مع هذا الطرف من حديث أبي الدرداء يشعر إشعارا قويا بأن الغلام المذكور من حديث أنس هو ابن مسعود، وقد قدمنا أن لفظ الغلام يطلق على غير الصغير مجازا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لابن مسعود بمكة وهو يرعى الغنم " إنك لغلام معلم " وعلى هذا فقول أنس " وغلام منا " أي من الصحابة أو من خدم النبي صلى الله عليه وسلم. وأما رواية الإسماعيلي التي فيها " من الأنصار " فلعلها من تصرف الراوي حيث رأى في الرواية " منا " فحملها على القبلية فرواها بالمعنى فقال من الأنصار، أو إطلاق الأنصار على جميع الصحابة سائغ وإن كان العرف خصه بالأوس والخزرج، وروى أبو داود من حديث أبي هريرة قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في ركوة فاستنجى " فيحتمل أن يفسر به الغلام المذكور في حديث أنس، ويؤيده ما رواه المصنف في ذكر الجن من حديث أبي هريرة أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم الإداوة لوضوئه وحاجته، وأيضا فإن في رواية أخرى لمسلم أن أنسا وصفه بالصغر في ذلك الحديث، فيبعد لذلك أن يكون هو ابن مسعود والله أعلم، ويكون المراد بقوله أصغرنا أي في الحال لقرب عهده بالإسلام. وعند مسلم في حديث جابر الطويل الذي في آخر الكتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق لحاجته فاتبعه جابر بإداوة، فيحتمل أن يفسر به المبهم، لا سيما وهو أنصاري. ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق عاصم بن علي عن شعبة " فأتبعه وأنا غلام " بتقديم الواو فتكون حالية، لكن تعقبه الإسماعيلي بأن الصحيح " أنا وغلام " أي بواو العطف. *3* الشرح: قوله: (باب حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء) العنزة بفتح النون عصا أقصر من الرمح لها سنان، وقيل هي الحربة القصيرة. ووقع في رواية كريمة في آخر حديث هذا الباب: العنزة عصا عليها زج بزاي مضمومة ثم جيم مشددة أي سنان، وفي الطبقات لابن سعد أن النجاشي كان أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يؤيد كونها كانت على صفة الحربة لأنها من آلات الحبشة كما سيأتي في العيدين إن شاء الله تعالى". الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ الْخَلَاءَ فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ تَابَعَهُ النَّضْرُ وَشَاذَانُ عَنْ شُعْبَةَ الْعَنَزَةُ عَصًا عَلَيْهِ زُجٌّ الشرح: قوله: (سمع أنس بن مالك) أي " أنه سمع " ولفظة " أنه " تحذف في الخط عرفا. قوله: (يدخل الخلاء) المراد به هنا الفضاء لقوله في الرواية الأخرى " كان إذا خرج لحاجته " ولقرينة حمل العنزة مع الماء فإن الصلاة إليها إنما تكون حيث لا سترة غيرها. وأيضا فإن الأخلية التي في البيوت كان خدمته فيها متعلقة بأهله. وفهم بعضهم من تبويب البخاري أنها كانت تحمل ليستتر بها عند قضاء الحاجة، وفيه نظر لأن ضابط السترة في هذا ما يستر الأسافل والعنزة ليست كذلك. نعم يحتمل أن يركزها أمامه ويضع عليها الثوب الساتر، أو يركزها بجنبه لتكون إشارة إلى منع من يروم المرور بقربه، أو تحمل لنبش الأرض الصلبة. أو لمنع ما يعرض من هوام الأرض، لكونه صلى الله عليه وسلم كان يبعد عند قضاء الحاجة، أو تحمل لأنه كان إذا استنجى توضأ، وإذا توضأ صلى، وهذا أظهر الأوجه، وسيأتي التبويب على العنزة في سترة المصلي في الصلاة. واستدل البخاري بهذا الحديث على غسل البول كما سيأتي. وفيه جواز استخدام الأحرار - خصوصا إذا أرصدوا لذلك - ليحصل لهم التمرن على التواضع. وفيه أن في خدمة العالم شرفا للمتعلم، لكون أبي الدرداء مدح ابن مسعود بذلك. وفيه حجة على ابن حبيب حيث منع الاستنجاء بالماء لأنه مطعوم لأن ماء المدينة كان عذبا. واستدل به بعضهم على استحباب التوضؤ من الأواني دون الأنهار والبرك، ولا يستقيم إلا لو كان النبي صلى الله عليه وسلم وجد الأنهار والبرك فعدل عنها إلى الأواني. قوله: (تابعه النضر) أي ابن شميل، تابع محمد بن جعفر، وحديثه موصول عند النسائي. قوله: (وشاذان) أي الأسود بن عامر وحديثه عند المصنف في الصلاة ولفظه " ومعنا عكازة أو عصا أو عنزة " والظاهر أن " أو " شك من الراوي لتوافق الروايات على ذكر العنزة والله أعلم. وجميع الرواة المذكورين في هذه الأبواب الثلاثة بصريون. *3* الشرح: قوله: (باب النهي عن الاستنجاء باليمين) أي باليد اليمنى، وعبر بالنهي إشارة إلى أنه لم يظهر له هل هو للتحريم أو للتنزيه أو أن القرينة الصارفة للنهي عن التحريم لم تظهر له، وهي أن ذلك أدب من الآداب. وبكونه للتنزيه قاله الجمهور، وذهب أهل الظاهر إلى أنه للتحريم، وفي كلام جماعة من الشافعية ما يشعر به، لكن قال النووي. مراد من قال منهم لا يجوز الاستنجاء باليمين أي لا يكون مباحا يستوي طرفاه، بل هو مكروه راجح الترك، ومع القول بالتحريم فمن فعله أساء وأجزأه. وقال أهل الظاهر وبعض الحنابلة: لا يجزئ، ومحل هذا الاختلاف حيث كانت اليد تباشر ذلك بآلة غيرها كالماء وغيره، أما بغير آية فحرام غير مجزئ بلا خلاف، واليسرى في ذلك كاليمنى والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ هُوَ الدَّسْتَوَائِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ وَإِذَا أَتَى الْخَلَاءَ فَلَا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَلَا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ الشرح: قوله: (حدثنا معاذ بن فضالة) بفتح الفاء والضاد المعجمة، وهو بصري من قدماء شيوخ البخاري. قوله: (هو الدستوائي) أي ابن أبي عبد الله لا ابن حسان، وهما بصريان ثقتان مشهوران من طبقة واحدة. قوله: (عن أبيه) أي أبي قتادة الحارث وقيل عمرو وقيل النعمان الأنصاري، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، أول مشاهده أحد ومات سنة أربع وخمسين على الصحيح فيهما. قوله: (فلا يتنفس) بالجزم و " لا " ناهية في الثلاثة، وروي بالضم فيها على أن لا نافية. قوله: (في الإناء) أي داخله، وأما إذا أبانه وتنفس فهي السنة كما سيأتي في حديث أنس في كتاب الأشربة إن شاء الله تعالى. وهذا النهي للتأدب لإرادة المبالغة في النظافة، إذ قد يخرج مع النفس بصاق أو مخاط أو بخار رديء فيكسبه رائحة كريهة فيتقذر بها هو أو غيره عن شربه. قوله: (وإذا أتى الخلاء) أي فبال كما فسرته الرواية التي بعدها. قوله: (ولا يتمسح بيمينه) أي لا يستنج. وقد أثار الخطابي هنا بحثا وبالغ في التبجح به وحكى عن أبي علي بن أبي هريرة أنه ناظر رجلا من الفقهاء الخراسانيين فسأله عن هذه المسألة فأعياه جوابها، ثم أجاب الخطابي عنه بجواب فيه نظر، ومحصل الإيراد أن المستجمر متى استجمر بيساره استلزم مس ذكره بيمينه، ومتى أمسكه بيساره استلزم استجماره بيمينه وكلاهما قد شمله النهي، ومحصل الجواب أنه يقصد الأشياء الضخمة التي لا تزول بالحركة كالجدار ونحوه من الأشياء البارزة فيستجمر بها بيساره، فإن لم يجد فليلصق مقعدته بالأرض ويمسك ما يستجمر به بين عقبيه أو إبهامي رجليه ويستجمر بيساره فلا يكون متصرفا في شيء من ذلك بيمينه انتهى. وهذه هيئة منكرة بل يتعذر فعلها في غالب الأوقات، وقد تعقبه الطيبي بأن النهي عن الاستجمار باليمين مختص بالدبر، والنهي عن المس مختص بالذكر فبطل الإيراد من أصله، كذا قال. وما ادعاه من تخصيص الاستنجاء بالدبر مردود، والمس وإن كان مختصا بالذكر لكن يلحق به الدبر قياسا، والتنصيص على الذكر لا مفهوم له بل فرج المرأة كذلك، وإنما خص الذكر بالذكر لكون الرجال في الغالب هم المخاطبون والنساء شقائق الرجال في الأحكام إلا ما خص. والصواب في الصورة التي أوردها الخطابي ما قاله إمام الحرمين ومن بعده كالغزالي في الوسيط والبغوي في التهذيب أنه يمر العضو بيساره على شيء يمسكه بيمينه وهي قارة غير متحركة فلا يعد مستجمرا باليمين ولا ماسا بها، ومن ادعى أنه في هذه الحالة يكون مستجمرا بيمينه فقد غلط، وإنما هو كمن صب بيمينه الماء على يساره حال الاستنجاء. *3* الشرح: قوله: (باب لا يمسك ذكره بيمينه إذا بال) أشار بهذه الترجمة إلى أن النهي المطلق عن مس الذكر باليمين كما في الباب قبله محمول على المقيد بحالة البول فيكون ما عداه مباحا. وقال بعض العلماء: يكون ممنوعا أيضا من باب الأولى لأنه نهي عن ذلك مع مظنة الحاجة في تلك الحالة. وتعقبه أبو محمد بن أبي جمرة بأن مظنة الحاجة لا تختص بحالة الاستنجاء، وإنما خص النهي بحالة البول من جهة أن مجاور الشيء يعطي حكمه، فلما منع الاستنجاء باليمين منع مس آلته حسما للمادة. ثم استدل على الإباحة بقوله صلى الله عليه وسلم لطلق بن علي حين سأله عن مس ذكره: " إنما هو بضعة منك " فدل على الجواز في كل حال، فخرجت حالة البول بهذا الحديث الصحيح وبقي ما عداها على الإباحة. انتهى. والحديث الذي أشار إليه صحيح أو حسن، وقد يقال حمل المطلق على المقيد غير متفق عليه بين العلماء، ومن قال به يشترط فيه شروطا، لكن نبه ابن دقيق العيد على أن محل الاختلاف إنما هو حيث تتغاير مخارج الحديث بحيث يعد حديثين مختلفين، فأما إذا اتحد المخرج وكان الاختلاف فيه من بعض الرواة فينبغي حمل المطلق على المقيد بلا خلاف، لأن التقييد حينئذ يكون زيادة من عدل فتقبل. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَأْخُذَنَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَلَا يَسْتَنْجِي بِيَمِينِهِ وَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن يوسف) هو الفريابي، وقد صرح ابن خزيمة في روايته بسماع يحيى له من عبد الله بن أبي قتادة، وصرح ابن المنذر في الأوسط بالتحديث في جميع الإسناد، أورده من طريق بشر بن بكر عن الأوزاعي فحصل الأمن من محذور التدليس. قوله: (فلا يأخذن) كذا لأبي ذر بنون التأكيد ولغيره بدونها، وهو مطابق لقوله في الترجمة " لا يمسك " وكذا في مسلم التعبير بالمسك من رواية همام عن يحيى، ووقع في رواية الإسماعيلي " لا يمس " فاعترض على ترجمة البخاري بأن المس أعم من المسك، يعني فكيف يستبدل بالأعم على الأخص؟ ولا إيراد على البخاري من هذه الحيثية لما بيناه. واستنبط منه بعضهم منع الاستنجاء باليد التي فيها الخاتم المنقوش فيه اسم الله تعالى لكون النهي عن ذلك لتشريف اليمين فيكون ذلك من باب الأولى، وما وقع في العتبية عن مالك من عدم الكراهة قد أنكره حذاق أصحابه، وقيل: الحكمة في النهي لكون اليمين معدة للأكل بها فلو تعاطى ذلك بها لأمكن أن يتذكره عند الأكل فيتأذى بذلك. والله أعلم. قوله: (ولا يتنفس في الإناء) جملة خبرية مستقلة إن كانت لا نافية، وإن كانت ناهية فمعطوفة، لكن لا يلزم من كون المعطوف عليه مقيدا بقيد أن يكون المعطوف مقيدا به، لأن التنفس لا يتعلق بحالة البول وإنما هو حكم مستقل. ويحتمل أن تكون الحكمة في ذكرها هنا أن الغالب من أخلاق المؤمنين التأسي بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان إذا بال توضأ. وثبت أنه شرب فضل وضوئه، فالمؤمن بصدد أن يفعل ذلك، فعلمه أدب الشرب مطلقا لاستحضاره، والتنفس في الإناء مختص بحالة الشرب كما دل عليه سياق الرواية التي قبله. وللحاكم من حديث أبي هريرة " لا يتنفس أحدكم في الإناء إذا كان يشرب منه " والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب الاستنجاء: بالحجارة) أراد بهذه الترجمة الرد على من زعم أن الاستنجاء مختص بالماء. والدلالة على ذلك من قوله " أستنفض " فإن معناه استنجي كما سيأتي. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْمَكِّيُّ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ اتَّبَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَكَانَ لَا يَلْتَفِتُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقَالَ ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا أَوْ نَحْوَهُ وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثٍ فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ بِطَرَفِ ثِيَابِي فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ وَأَعْرَضْتُ عَنْهُ فَلَمَّا قَضَى أَتْبَعَهُ بِهِنَّ الشرح: قوله: (حدثنا أحمد بن محمد المكي) هو أبو الوليد الأزرقي جد أبي الوليد محمد بن عبد الله صاحب تاريخ مكة، وفي طبقته أحمد بن محمد المكي أيضا لكن كنيته أبو محمد واسم جده عون ويعرف بالقواس. وقد وهم من زعم أن البخاري روى عنه، وإنما روى عن أبي الوليد، ووهم أيضا من جعلهما واحدا. قوله: (عن جده) عني سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاصي بن أمية القرشي الأموي، وعمرو بن سعيد هو المعروف بالأشدق الذي ولي إمرة المدينة وكان يجهز البعوث إلى مكة كما تقدم في حديث أبي شريح الخزاعي، وكان عمرو هذا قد تغلب على دمشق في زمن عبد الملك بن مروان، فقتله عبد الملك وسير أولاده إلى المدينة، وسكن ولده مكة لما ظهرت دولة بني العباس فاستمروا بها، ففي الإسناد مكيان ومدنيان. قوله: (اتبعت) تشديد التاء المثناة، أي سرت وراءه، والواو في قوله " وخرج " حالية وفي قوله " وكان " استئنافية. وفي رواية أبي ذر فكان بالفاء. قوله: (فدنوت منه) زاد الإسماعيلي " أستأنس وأتنحنح، فقال: من هذا؟ فقلت: أبو هريرة". قوله: (ابغني) بالوصل من الثلاثي أي أطلب لي، يقال بغيتك الشيء أي طلبته لك. وفي رواية بالقطع أي أعني على الطلب، يقال أبغيتك الشيء أي أعنتك على طلبه، والوصل أليق بالسياق، ويؤيده رواية الإسماعيلي ائتني. قوله: (أستنفض) بفاء مكسورة وضاد معجمة مجزوم لأنه جواب الأمر، ويجوز الرفع على الاستئناف، قال القزاز: قوله أستنفض أستفعل من النفض وهو أن تهز الشيء ليطير غباره، قال: وهذا موضع استنظف، أي بتقديم الظاء المشالة على الفاء، ولكن كذا روي. انتهى. والذي وقع في الرواية صواب ففي القاموس استنفضه استخرجه، وبالحجر استنجى، وهو مأخوذ من كلام المطرزي قال: الاستنفاض الاستخراج، ويكنى به عن الاستنجاء، ومن رواه بالقاف والصاد المهملة فقد صحف. انتهى. ووقع في رواية الإسماعيلي " استنجى " بدل أستنفض وكأنها المراد بقوله في روايتنا أو نحوه، ويكون التردد من بعض رواته. قوله: (ولا تأتني) كأنه صلى الله عليه وسلم خشي أن يفهم أبو هريرة من قوله استنجي أن كل ما يزيل الأثر وينقي كاف ولا اختصاص لذلك بالأحجار، فنبهه باقتصاره في النهي على العظم والروث على أن ما سواهما يجزئ، ولو كان ذلك مختصا بالأحجار - كما يقوله بعض الحنابلة والظاهرية - لم يكن لتخصيص هذين بالنهي معنى، وإنما خص الأحجار بالذكر لكثرة وجودها، وزاد المصنف في المبعث في هذا الحديث أن أبا هريرة قال له صلى الله عليه وسلم لما فرغ " ما بال العظم والروث؟ قال: هما من طعام الجن " والظاهر من هذا التعليل اختصاص المنع بهما. نعم يلتحق بهما جميع المطعومات التي للآدميين قياسا من باب الأولى، وكذا المحترمات كأوراق كتب العلم. ومن قال علة النهي عن الروث كونه نجسا ألحق به كل نجس متنجس، وعن العظم كونه لزجا فلا يزيل إزالة تامة ألحق به ما في معناه كالزجاج الأملس. ويؤيده ما رواه الدارقطني وصححه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بروث أو بعظم وقال " إنهما لا يطهران " وفي هذا رد على من زعم أن الاستنجاء بهما يجزئ وإن كان منهيا عنه، وسيأتي في كتاب المبعث بيان قصة وفد الجن وأي وقت كانت إن شاء الله تعالى. قوله: (وأعرضت) كذا في أكثر الروايات، وللكشميهني " واعترضت " بزيادة مثناة بعد العين والمعنى متقارب. قوله: (فلما قضى) أي حاجته (أتبعه) بهمزة قطع أي ألحقه، وكني بذلك عن الاستنجاء. وفي الحديث جواز اتباع السادات وإن لم يأمروا بذلك، واستخدام الإمام بعض رعيته، والإعراض عن قاضي الحاجة، والإعانة على إحضار ما يستنجى به وإعداده عنده لئلا يحتاج إلى طلبها بعد الفراغ فلا يأمن التلوث. والله تعالى أعلم.
|